الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال: ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فبدا فعل ماض فلابد له من فاعل والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدا وإنما تكون في موضع المفعول بعلمت وأن لم يكن في اللفظ علموا ففي اللفظ ما هو معناه لأن قولهم: بدا ظهر للقلب لا للعين، وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله: لهم هو الفاعل فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدما على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولا لذلك العلم كما تقول: علمت ليقومن زيد ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة فكذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك لا يبالون فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى إلا ترى كيف اختص ب على من بين حروف الجر لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يبالهما ويلتفت إليهما فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي أصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي التزموها مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانه هذه الكلمات على إيجازها ثم قال:فصل:فإن قيل ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض؟ قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع وأما التحقيق في الجواب فأن تقول ألف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ فحكيت الكلام كما كان كما كان ليعلم المخاطب ما كان مستفهما عنه معلوم كما تقول قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرا متوهما عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي. ولهذا نظائر يطول ذكرها فكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا دخل في قلوبهم منه شيء صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية كما فعل بعضهم ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه مجيء أنذرتهم وأدعوتهم بلفظ الماضي.فإن قيل: فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم وكذلك: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتمْ صَامِتُونَ} وأقام زيد أم قعد ولم يجيء بلفظ الحال ولا المستقبل؟فالجواب من وجهين:أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي تقول إن قام زيد غذا قمت وهاهنا يتعذر ذلك المعنى كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم فلذلك جاء بلفظ الماضي وقد قال الفارسي قولا غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ قال إن ألف الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأي المعنى الذي قدمناه لكان أشبه على أنه عندي مدخول أيضا لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} و{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لا تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال بل هي أظهر في فعل الحال ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه.والتحقيق في الجواب أن تقول قد أصلنا في نتائج الفكر أصلا وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافا إلا ليدل على كون الاسم مخبرا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافا إليه ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان ولا بحال استقبال دون حال مضي بل يجعله مطلقا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه ألا ترى أنهم يقولون لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالا ولا حالا على الخصوص فإن قلت ولا يريدون أيضا ماضيا فكيف جاء بلفظ الماضي قلنا قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحا قد انقضى وانقطع إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام فليس في قوله ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال فإن قلت لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع قلت حدث حديثين امرأة وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي كما كان لفظ الحال في قولك: لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام وإذا أنتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعا فتأمل هذا تجده صحيحيا.
وقال المبرد: بقول الكوفيين فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال قال الشاعر: قال الآخر: وقال آخر: واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع نصب اتصل بها نون الوقاية نحو إني وأنني وكأني وكأنني فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية فيقال إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا لولاني كما قالوا ليتني ولم يأت ذلك فتعين أن تكون ضمير جر فإذا ثبت هذا في الياء فكذلك في الكاف والهاء وأما الكوفيين فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل فيكون المتصل كذلك ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائر المنفصلة كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان ويتعاوضان فقالوا ما أنا كأنت فأوقعوا الرفع موقع ضمير الجر فلذلك قالوا لولاك فأوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب قالوا وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر فكيف تعمل في المضمر.وأجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين:أحدهما: إيقاع المتصل موقع المنفصل.والثاني: إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغيير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل قالوا وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال هو لحن واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين والله أعلم.
|